حول استبعاد النكبة الفلسطينية من “دراسات الصدمة“ (Trauma)
في البداية سأقدم لكم سرداً للاجئة من سوريا (تم تسجيله 6 آذار/مارس 2013، في مخيم عين الحلوة في لبنان):
كان عمري ست سنوات ونصف عندما غادرنا [فلسطين]. كنا في وادي سلامة قرب بنت جبيل، بين جبلين، نجلس تحت أشجار الزيتون. كان الناس يحصدون القمح. كانت أمي تغطيني بالقش. جاءت الطائرات الإسرائيلية وقصفت أشجار الزيتون والصبار. قصفوا كل شيء. قُتل عمي. إلى أين نستطيع الذهاب؟ نمنا على الطريق [وهي تبكي]. ...كان عمري ست سنوات ونصف. رمى الجنود اللبنانيون فتاتاً من الخبز، العفن. كنت أجلب الخبز لكي نأكل. كان بائتاً ورائحته سيئة، فقمنا بالتخلص منه. كنت أبكي وأقول "ماما، أريد أن أشرب". كان هناك شرطي لبناني. كانت البركة بحجم غرفة الجلوس هذه وكان لها صنبور. قلت له "يا عمي، أعطني بعض الماء". ما زلت أتذكر، كان عمري ست سنوات ونصف. قال لي "لا أستطيع أن أعطيك الماء حتى يأتي الرقيب".
بقيت عائلتي هنا [في عين الحلوة]، تزوجت رجلاً من سوريا. الزوجة تتبع زوجها. إلى مخيم اليرموك! اليرموك! كان وضعنا جيداً في مخيم اليرموك. ولكن أين هو في هذه اللحظة؟ تبعثر الناس الآن، البعض منهم هنا، والبعض الآخر في مكان مختلف. غادر من بقي معه نقود وكذلك غادر من بقي معه سيارة، أما الفقراء، فإلى أين يمكنهم أن يذهبوا؟
بدأت الحرب، المشاكل، الرصاص. الرصاص. لم نكن خائفين. هاجموا المعسكرات لمدة يومين أو ثلاثة. وقف فتية الحي على كل المداخل، لم يسمحوا لهم بأن يدخلوا إلى المنازل. كان هناك إطلاق نار قرب منزلنا. لم نكن خائفين. أتت الطائرة وضربت هدفها. لم نكن خائفين. ثم بدأ تساقط قذائف الهاون، في الأمام، في الخلف وحولنا. انهارت المنازل. تطايرت الأبواب وانهارت النوافذ. غادرنا تحت القصف. ذهبنا إلى خان الشيح، حيث عائلة كنّتي؛ أنا وكنّتي وأولادها وأولادي. كان الهدوء يسود المكان. غادرنا دون أي شيء. لم يكن هناك وقت لأخذ الثياب، فقط الأطفال. أثناء مغادرتنا، سقطت قذيفة هاون بيننا وبين الصيدلية.
بقينا شهراً في خان الشيح ثم جئنا إلى هنا. لم نكن نريد مغادرة سوريا --هل يريد أي كان أن يغادر موطنه؟ لا يزال زوجي هناك، وابنتي هناك. إنها متزوجة ولديها خمسة أطفال. [وهي تبكي] هناك! في دمشق! وابنتي الأخرى. كل واحد في مكان ما. لا يوجد عمل هنا، لا طعام [وهي تبكي]. ابني الآخر بقي هناك في منزله تحت القصف. كان هناك اشتباك البارحة [في مخيم اليرموك].
يسأل أحدهم: هل تتوقعين أن تعودي إلى مخيم اليرموك؟ [تبدأ المتحدثة بالبكاء] ماذا بوسعي أن أقول لك؟ قبل أن نغادر، أعطاني زوجي المفتاح وقال "خذي المفتاح معك فلربما لن تجديني عندما تعودين". دعونا نعود إلى فلسطين على الأقل!!!!
دراسات ”الصدمة“ (Trauma): مقالة نقدية
اخترت أن أضع بجانب هذا السرد لفرار لاجئة فلسطينية من مخيم اليرموك في سوريا تحليلاً لحقل من الدراسات اسمه ”دراسات الصدمة“ وذلك من أجل المقارنة. أقوم بهذا لثلاثة أسباب رئيسية 1) إن دراسات الصدمة حقل أكاديمي مهم فيما يخص الحجم والمدة والتأثير على صنّاع القرار ونفوذه عند عامة الناس؛ 2) إنه يجمع مجموعة من دراسات الحالات والتجارب والنقاشات حول المعاناة والتي تدعي ضمنياً بأنها عالمية وَ 3) باختياره حالات الصدمة فإنه يمارس، كما سأجادل، أجندة مخفية تركيزها على المعاناة ليس متماثلاً وهو إيديولوجيٌ وأوروبي التمحور.
في أوائل التسعينيات من القرن المنصرم، بدأت مجموعة الدراسات، التي أتفحصها تحت مسمّى ”دراسات الصدمة“، بنشر دراسة (Felman) وَ Laub بعنوان ”شهادة: أزمات الإدلاء بشهادة في الأدب والتحليل النفسي والتاريخ“ (Testimony: Crises of Witnessing in Literature Psychoanalysis and History)المستندة على تدريس المحرقة اليهودية في الجامعة، وعلى العمل السريري مع الناجين من المحرقة اليهودية. تلا هذا في عام 1995 الدراسة التي حررتها(Cathy Caruth) بعنوان ”الصدمة: استكشافات في الذاكرة“( Trauma: Explorations in Memory) وكذلك مقالتها ”خبرة غير مطالب بها: الصدمة والسرد والتاريخ 1996“(Unclaimed Experience: Trauma, Narrative, and History 1996.) تجمع Caruth الأدب مع الدراسات السريرية لمحاكاة التفكير في الصدمة التاريخية مثل المحرقة اليهودية وضرب هيروشيما بالقنبلة الذرية. بما أن ذاكرة الصدمة غير معترف بها على أنها حقيقة بشكل مباشر ، فيمكن للأدب فتح نافذة على ما يمكن قوله بطرق غير مباشرة.
يقدم هؤلاء الباحثون معنىً تاريخياً ووجودياً للأزمة ليصبح عنصراً تعريفياً إضافياً لدراسات الصدمة، ومعه الدور المركزي للشاهد الذي يستنبط السرد من الصدمة ويقوم كذلك بنقله إلى العالم الخارجي. يقول (Dori Laub)، وهو طبيب نفسي سريري عمل مع أشخاص نجوا من المحرقة اليهودية وساعدهم في تأسيس أرشيف فيديو (Fortunoff) في جامعة Yale، بأن "الشاهد هو جزء من عملية الإدراك الكامل للصدمة الجماعية" (Laub عام 1992: صفحة: xv ). إن صورة الشاهد هي "إطار غير اعتيادي يُظهر بأن التصنيفات التي تحدد فهمنا للواقع قد فشلت...وليُفسّر المدى الذي وصلت إليه الأمور في التاريخ المعاصر "تقودنا المواجهة مع الواقع إلى خبرة "الأزمة الوجودية التي يشترك فيها الجميع".
تعتبر المجلدات الثلاثة التي حرّرها(Arthur Kleinmann) وَ (Veena Das) وغيرهم: المعاناة الاجتماعية ( 1997 Social Suffering)، العنف والذاتية (2000 Violence and Subjectivity)، وإعادة إنتاج العالم 2001 Remaking a World -- المراجع التأسيسية لحقل الصدمة بشكل عام، وكان لها "تأثير بارز على الحقل العلمي وسواه"، وتمتد كما يخبرنا(Didier Fassin) إلى صنّاع القرار والسياسيين (Fassin 2012:6). إن هذه المجلدات الثلاثة، والتي سأشير لها بشكل مختصر باسم (Kleinmann وَ Das)، تقدم وجهة النظر تجاه المعاناة العالمية التي تبرر استخدام مصطلح ”صدمة“، على الرغم من تنوّع تأثيرها الموضوعي. يبدأ المجلد الأول: "إن المعاناة الاجتماعية...تجمع في مكان واحد حشداً من المشاكل الإنسانية تكون أصولها ونتائجها في الأذية المدمرة التي يمكن للقوة الاجتماعية أن تُحدثها في التجربة الإنسانية. تنتج المعاناة الاجتماعية عن أفعال القوى السياسية والاقتصادية والمؤسساتية تجاه الناس، وبشكل تبادلي أيضاً، من الطريقة التي تؤثر بها أشكال القوى هذه على الاستجابة ”للمشاكل الاجتماعية“. (ix)
من الناحية النظرية يقول (Kleinmann وَ Das) بأنهما يهدفان إلى "زعزعة استقرار التصنيفات التي تم تأسيسها" وإلى "انهيار التشعّبات البالية والحدود المصطنعة، مثل تلك الموجودة بين الفرد والمجتمع..." يهتمان باللغة التي يُعبر عن الألم بها: "يجب علينا...أن نفحص العلاقات الجوهرية بين اللغة والألم، الصورة والمعاناة". ويقترحان لغة جديدة فيها "ذعر وخيبة أمل وحرمان وإنذار" عوضاً عن "المصطلحات الاعتيادية في السياسة والبرامج". في هذا الخصوص أيضاً، يبدو بأن الهدف هو رفع حساسية الرأي العام وتحريكه ليحل محل آليات الدولة الفاشلة.
يتعامل أول المجلدات الثلاثة لـِ (Kleinmann وَ Das ) ”المعاناة الاجتماعية“ مع ”المصادر والأشكال الرئيسية للمحنة الاجتماعية، مع التركيز على العنف السياسي“ بينما يتفحص المجلد الثاني ”العنف والذاتية“ الإجراءات التي عن طريقها يتحقق العنف" ينظر الثالث إعادة إنتاج العالم ”Remaking a World“ إلى كيفية "تحمّل المجتمع وتعامله مع عنف الصدمة المبالغ به وتفتته بتأثيره وأيضاً الأشكال الخبيثة الإضافية من المعاناة الاجتماعية". تبقى المحرقة اليهودية مرجعاً أساسياً لعنف استثنائي في سلسلة (Kleinmann وَ Das). ولكن وبينما اهتم (Felman وَ Laub وَ Caruth) بشكل حصري بالتاريخ والأدب الأوروبيين فإن سلسلة (Kleinmann وَ Das) تخرج إلى العالم "غير الغربي"، وتتبنى عِلم الأعراق والثقافات كأفضل عدسة لدراسة المعاناة عالمياً. هذه الخطوة بالذات والتي تم اتخاذها دون تنظير العلاقة بين العالمين الغربي وغير الغربي ودون تنظير ما يتضمنه علم الأعراق والثقافات من ناحية التوسع الغربي الذي يعرّي ”دراسات الصدمة“ لنقد يفتقد إلى التأمل الذاتي.
تتبنى الأمثلة الأخيرة ”لدراسات الصدمة“ كلاً من النموذج الأدبي ونموذج علم دراسة الأعراق والثقافات، وتركز أحياناً على التعبير للصدمة كما في أفعال الذاكرة( 1999 Acts of Memory ) لـِ Mieke Bal بينما ينزع آخرون تجاه دراسات محلية للمعاناة في العالم غير الغربي، على سبيل المثال اضطرابات ما بعد الاستعمار( 2008 Postcolonial Disorders). لم يتم تنظير هذا التوسع فيما يتعلق بأصول علم الأعراق والثقافات كأسلوب غربي لدراسة العالم غير الغربي، ولا يوضح (Kleinmann وَ Das) كيف تختلف المعاناة في العالم غير الغربي عن النماذج الأوروبية سواء في أسبابها أو الفهم المحلي لها وطرق التعبير عنها أو تقنيات معالجتها. يبدآن من مفهوم عام عن العالمية تم تجريده تماماً من التاريخ الذي سبب، وما يزال يسبب، التفاوت الاجتماعي العالمي. ومع أن المحررين المتأخرين للصدمة (على سبيل المثال Delvecchio Good 2008) يشيرون إلى فرانس فانون وفترة ما بعد الاستعمار فإنهم لا يسمحون لهذه الإشارة بأن تعيد تشكيل وجهة نظرهم نحو العالم غير الغربي. تصبح نظريات علم النفس وتطبيقاته إشارة أخرى ‘لعصرية’ الغرب بالنسبة لهم.
طبعت مجلدات( Kleinmann وَ Das) ”دراسات الصدمة“ بطابع يركز على الذاتية، على الرابط بين الفرد والمعاناة الاجتماعية، وعلى تجربة المعاناة بحد ذاتها، وعلى الفرق الذي أحدثته الثقافة في التعبير عن الألم والاعتراف به، وعلى مواقع وأشكال العنف المحلية. يوحي تضمينهم لدراسات عن المحرقة اليهودية سوياً مع حالات عديدة من الصراع المدني بأن الصدمة الناتجة عن الحرب مثار اهتمام كبير. ولكن أي حروب؟ نجد هنا اختصاراً لوجهة تاريخية يبدو أنها وضعت لاستبعاد "ذكريات تاريخية للمعاناة – مثل العبودية وتدمير مجتمعات السكان الأصليين والحروب والإبادة الجماعية والاضطهاد الامبريالي والاضطهاد الذي تلا الإمبريالية (1997:xi). بالفعل، ينظر( Kleinmann وَ Das ) إلى هذه الذكريات على أنها أسباب محتملة للعنف، ويشيرون إلى أنها "لديها استخدامات حالية...لتفويض الحالة الوطنية أو المقاومة الطبقية أو العرقية (في نفس الصفحة). قد يسأل القارئ لِمَ تُقدم الصراعات الإقليمية والوطنية والطبقية والعرقية من أجل العدالة على أنها أسباب للعنف وليست نتائج للعنف؟ وعلى الرغم من أن Kleinmann وَ Das يعبّران عن قلقهما من "أعمال السلطة في الحياة الاجتماعية" ولكنه من الواضح بأن امتلاك السلطة أو عدم امتلاك السلطة، كما يتم التعبير عنهما عالمياً على الأقل، ليستا الهدف الرئيسي لتحليلهما. ولكن الهدف هو الأسباب ‘الألطف’ للمعاناة في مؤسسات الدولة والبيروقراطيات الطبية، أو هو دور ‘الإعلام’، على سبيل المثال، في توضيح بعض حالات المعاناة وإهمال غيرها والتي يركز عليها هذان المحرران.
لا تعير سلسلة Kleinmann وَ Das الكثير من الاهتمام لكون الاستعمار سبباً للمعاناة العالمية. إن طلال أسعد، أحد المساهمين في المجلد الأول لـِ Kleinmann وَ Das المعاناة الاجتماعية Social Suffering، هو الوحيد الذي يذكّر القراء بالاستعمار من خلال تركيزه على أن النقاش حول التعذيب وحقوق الإنسان يشتت الانتباه عن أسباب المعاناة مثل الحروب "التي ينتج عنها عبء ثقيل من الألم والمعاناة على سكانٍ بأكملهم" يمكن قلب هذه الملاحظة لاستخدامها في نقد Kleinmann وَ Das في طريقة إعادة تشكيلهما لحدود جغرافية سياسية مؤقتة بين أقاليم تولّد فيها العنف تاريخياً عن طريق شبه احتكارٍ لوسائل القوة أو أقاليم حيث يتطور العنف فيها من خلال صراع على موارد محدودة أو ضغينة تفاقمها السيطرة الاستعمارية. يلعب نموذج علم الأعراق والثقافات دوره في اختصار وجهة النظر التاريخية هذه من خلال صفته المحدودة والزائلة وتركيزه المحلي [Fabian 1983:80]
توضح سلسلة Kleinmann وَ Das هذه النقطة بقوة من خلال إهمالها للاستعمار كسبب للمعاناة في الوقت الراهن، ويعود سببه جزئياً إلى رأي يرى بأن الاستعمار شيء من الماضي. يكتبان في مقدمة المجلد الثاني العنف والذاتية Violence and Subjectivity:
بزغت جغرافية سياسية جديدة للعالم في العقدين الماضيين حيث شُطبت مناطق بأكملها على أنها ‘مناطق عرضة للعنف’مما يوحي بأن التوزيع المكاني التقليدي، أو المراكز المدنية الضخمة، أو المستعمرات الملحقة، أو القوى العظمى والدول التي تدور في فلكها هي جميعها أصبحت مهجورة من الناحية اللغوية [2001:1]
إن هذا الشطب لمناطق محددة على أنها ‘عرضة للعنف’ يفصل العنف في تلك المناطق عن المراكز الدولية للسلطة العسكرية والسياسية والاقتصادية. إن تركيز دراسات مذهب الصدمة على الصراعات المدنية ضمن دول ‘ما بعد الاستعمار’ مثل أيرلندا وسيريلانكا وجنوب إفريقيا يحجب التاريخ الاستعماري الذي كان، وما يزال في كثير من الأحيان، مساهماً أساسياً لمثل هذه الصراعات. لا بد هنا من التمييز من الطريقتين اللتين يُستخدم بهما مصطلح ‘ما بعد الاستعمار’: أحداهما تريده أن يعني بأن الاستعمار قد انتهى، والأخرى تستخدمه ليعني أن الاستعمار اليوم يكشف عن نفسه بطرق تختلف عن الماضي، من خلال أشكال سيطرة غير مباشرة عوضاً عن الأشكال المباشرة. تعتمد ‘العصرية الاستعمارية’ بشكل أقل على الحدود على الأرض وبشكل أكثر على السيطرة على التقنيات، والوقت والفضاء، والتصنيفات والمعاني. في مواجهة أولئك الذين يؤكدون بأنه "قد رحلت جميع الإمبراطوريات" يُظهر Derek Gregory كيف تتم إعادة تشكيل الاستعمار على نحو إيديولوجي وكذلك عسكري في حملات جيش الولايات المتحدة ضد أفغانستان، وجيش إسرائيل ضد فلسطين ومن قبل أمريكا وبريطانيا ضد العراق (الوقت الحاضر الاستعماري 2004 The Colonial Present). في هذه الحروب يكتب Gregory: "إن امتداد النظام العالمي (كنمط منهجي للسلطة والمعرفة والجغرافيا) قد تم إنتاجه بشكل متطابق إلى حد بعيد مع إسقاط الماضي الاستعماري...على الوقت الراهن الاستعماري" (2004:28). إن إهمال الاستعمار المتمثل في عبارة Kleinmann وَ Das ‘مناطق عرضة للعنف’ يُعاد تشكيله على امتداد مذهب الصدمة على شكل دراسات على نطاق ضيق أو دراسات لا تمتّ للتاريخ بشكل كبير.
إن مسار حقل الصدمة منذ Kleinmann وَ Das هو مسار انتشار سريع، ويتشعب لدراسات حول الذاكرة، والعزاء والكآبة، وسياسة الشهود، والاستغلال الجنسي، والعنصرية، ورهاب المثلية، و‘فترة ما بعد الاستعمار’... شكّل مفهوم الصدمة عند فرويد، والذي انطلق منه، تلميحاً من خيطٍ موحِّدٍ بشكل عام، ولكن بعض المجلدات تؤكد على علم النفس أقل من غيرها. فبينما تحيط بعض الكتابات بـ ‘دراسات الذاكرة’ وغيرها بـ ‘الأنثروبولوجيا الطبية’ فإن أصلحقل الصدمة مبني حول مجموعة من الثوابت: المعالجة النفسية، والذاتية، والمعاناة كتجربة، ومركزية الشاهد، وأهمية الشهادة. تُقدم التنوعات الثقافية والقضايا المحلية من أجل دعم هذا البناء المركزي وليس من أجل نقده أو تعديله. فقد أضاف التوسع عدداً أكبر من حالات الدراسة إلى المشهد، لدرجة أن ‘حقل الصدمة’ يستطيع أن يدعي العالمية ضمنياً وذلك من خلال تغطيته الجغرافية السياسية. في هذه النقطة بالتحديد يظهر الاختيار غير النظري بشكل أوضح.
إن حالات الدراسة التي تظهر في المعاناة الاجتماعية Social Suffering – أول مجلد من Kleinmann وَ Das -- هي عن المحرقة اليهودية، والصين في فترة ماو تسي تونغ، والفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وهاييتي، وسيريلانكا. يتضمن المجلد الثاني الحروب الأهلية في البلقان وأيرلندا والهند وجنوب إفريقيا وسيريلانكا وغواتيمالا ونيجيريا. يضيف المجلد الثالث الأشخاص الذين عانوا من القنبلة الذرية في اليابان، ودراسة لأقلية "كوي" في تايلاند، وهنود "كري" في كندا. وبينما تظهر عدة دول في أكثر من مجلد فإن هناك دراستان فقط من أمريكا اللاتينية (عدا عن هاييتي)، وواحدة فقط من إفريقيا، ولا واحدة من أستراليا أو المناطق العربية والمسلمة. هذا يدعو للدهشة عندما نتذكر بأن جميع هذه المناطق كانت هدفاً للاستعمار وبالتالي الإبادة الجماعية والعبودية والنزوح ونهب الثروات وتدمير البيئة.
كانت أمريكا اللاتينية أول قسم في العالم يتم استعماره وإفريقيا الثاني حيث تم إبادة شعوب بأكملها في كلتا القارتين. كانت المناطق العربية والمسلمة تحت سيطرة الاستعمار الأوروبي لفترات طويلة. ولكن على الرغم من المعاناة من الحروب الاستعمارية ونزوح السكان – دون أن نغفل ذكر الهجمات العسكرية المعاصرة -- فإن هذه المنطقة الواسعة تغيب عن حقل الصدمة.
غالباً ما يشير محررو الكتب حول الصدمة إلى أنواع العنف في محيطهم المؤقت، على سبيل المثال ضرب عناصر الشرطة لرودني كينغ في حالة Douglass وَ Vogler الشاهد والذاكرة: حديث الصدمة Witness and Memory: The Discourse of Trauma المنشور عام 2003. تمت المبادرة إلى الشاهد والذاكرة Witness and Memory من خلال حلقات دراسية في جامعة Rutgers في وقت كان يجري فيه النقاش حول العنصرية التي أثارتها ‘قضية’ رودني كينغ. تم اتخاذ قرار نشر الكتاب على ضوء أحداث الحادي عشر من أيلول وحرب الخليج الأولى والإبادة الجماعية في رواندا. طَرحت النقاشات حول الاستغلال الجنسي للأطفال، التي كانت مستعرة في تسعينيات القرن المنصرم، هذا الموضوع ضمن تشكيلة الصدمة مثل Mieke Bal في أفعال الذاكرة 1999 Acts of Memory، وَ Robben وَ Suarez-Orozco في الثقافات تحت الحصار 2000 Cultures Under Seige بطريقة تستخف بالموضوع وبشكل مماثل لما حصل سابقاً. لا أجادل هنا بأن العنصرية والاستغلال الجنسي ليسا من الصدمة، بل أجادل بأن حقل الصدمة قد نما دون نقاش دقيق حول مفاهيمه الأساسية. ومع أنه يدعي بأن التحليل النفسي هو قاعدته النظرية المبدئية، وعلى الرغم من أن مصطلح ‘الصدمة’ قد تم تعريفه وإعادة تعريفه من قبل علماء النفس (Fassin 2009)، فإن امتداد المفهوم النفسي إلى الحياة الاجتماعية لم يقدم مسائل كافية يمكن اعتبارها معاناة اجتماعية.
تضمن انتشار حقل الصدمة الإبادة الجماعية للأرمن، وضرب هيروشيما وناكازاكي بالقنبلة الذرية، وتجزئة الهند، والحروب الأهلية في شمال أيرلندا وجنوب إفريقيا وسيريلانكا، والإعدامات من غير محاكمة قانونية في جنوب الولايات المتحدة، والاستغلال الجنسي للأطفال، موت المثليين بسبب الإيدز، Rigboberta Menchu وغواتيمالا، البلقان... نبحث، ولكن بدون جدوى في غمار الأعمال الواسعة هذه عن نكبة فلسطين عام 1948. صحيح أن النكبة لها دراستها المتراكمة الخاصة بها في العربية والفرنسية والإنكليزية، ولكن هذه الدراسات تنحصر بمواضيع خاصة تندرج تحت مسمى ‘الصراع العربي الإسرائيلي’ تمنع من وصولها للرأي العام. ولكن التأمل بتاريخ الشعب الفلسطيني منذ النكبة، وما تعنيه النكبة موضوعياً وذاتياً لا يمكن إلا أن يؤدي، كما أقترح، إلى نتيجة مفادها بأن هذا الحدث كان مأساوياً بنفس مستوى الكوارث العالمية الأخرى، وبأنه حدثٌ له متطلباته الخاصة، كما كل الكوارث، في الدراسات الأكاديمية.
ما هي المعايير التي أقدم بها النكبة على أنها حدث صدموي؟ ما الذي عنته النكبة للفلسطينيين؟ إن الفترة الزمنية التي نتحدث عنها – أكثر من ستين عاماً – وكذلك التقسيم الجغرافي السياسي للشعب الفلسطيني بعد عام 1948 يجعلان أي إجابة غير كاملة. ولكن في الحد الأدنى نستطيع القول بأن النكبة عنت التشرد، وفقدان الهوية الوطنية وانعدام الدولة، وانقسام المجموعات العائلية والمحلية، والعُرضة للهجوم، والإكراه، والعار... وقد سببت فقداناً للأمور الاعتيادية يبدو أن لا سبيل لتعويضه، لدرجة أن بشير الجميل وهو أحد قادة الميليشيات اللبنانية صنّف الفلسطينيين على أنهم "شعب زائد في الشرق الأوسط". نستطيع مشاهدة هذا الوضع الشاذ اليوم في التمييز الذي يحصل اليوم في الأردن ولبنان بين اللاجئين السوريين والفلسطينيين القادمين من سوريا.
في سنة النكبة، حُذف اسم فلسطين من الخارطة، وأصبح الفلسطينيون لاجئين، أو بأفضل الأحوال مواطنين من الدرجة الثانية في دول أخرى. صادق الأعضاء الأقوياء في عصبة الأمم على رفض إسرائيل لعودتهم كما ورد في القرار 194 لأسباب تضمّنت العادة الاستعمارية في رسم الخطوط على الخرائط وإزاحة الشعوب ‘إلى الخلف’. وأكثر من ذلك، فلم تكن النكبة حدثاً وحيداً بل مجموعة من المآسي يستمر انتشارها. إنها ‘نكبة مستمرة’ تشرد الفلسطينيين من منطقة تلو الأخرى: من الضفة الغربية وغزة في عام 1967؛ من الكويت عامي 1990 و 1991؛ من ليبيا عام 1995؛ من العراق عام 2001؛ من سوريا (2011-2013) ويجبرهم هذا على أن يعيشوا حياة لا تطاق.
إن عدم تناظر القوة بين إسرائيل والولايات المتحدة من جانب والفلسطينيين من الجانب الآخر يُفرّغ ‘مفاوضات السلام’ من معناها الحقيق. حتى انتهاكات إسرائيل الفاضحة للقانون الدولي – احتلال غزة، وجدار الفصل، وبناء المستوطنات في الضفة الغربية – أثارت انتقادات بسيطة من الحكومات الغربية. يحرم هذا التحيز الدائم الفلسطينيين من الأمل المنطقي لنهاية معاناتهم. أي أن معاناتهم هي عيش حياة لا تطاق من دون أمل بالعدالة. يعمّق عدم الاكتراث من قبل القوى العظمى من جراحهم. فكما يقول أبو لغد وسعدي "إن العامل الذي يُضعف مقدرتهم على قول قصتهم ونشر ذكرياتهم للعلن هو أن البلاد القوية لا تريد أن تسمع" (2007:11). يركز من كَتَبَ حول المحرقة اليهودية مثل Dori Laub على أهمية وجود شاهد عاطفي لاستنباط سرد الصدمة. في عام 2009، عندما سألت الباحثة نادرة شلهوب كيفوركيان الفلسطينيين في القدس الشرقية عن حياتهم -- هدم البيوت، وإلغاء بطاقات الهوية، والاحتجاز في نقاط التفتيش – عبّروا عن عدم إيمانهم بوجود أحد في العالم الخارجي يكترث لهذا الأمر. تقول كيفوركيان "ظهر الهجوم على غزة في كل مقابلة أجريناها...بعضهم بدأ الجملة بعبارة ‘انظري إلى ما حصل في غزة’. واعتمد غيرهم على غزة كدليل لرفض العالم للعدالة والقانون" (2012:8/9).
إنك من دون شك تتساءل لماذا أطرح، على الرغم من الكم الهائل من المعاناة في العالم، قضية غياب النكبة عن حقل الصدمة كقضية هامة. أفعل ذلك، أولاً، لأنه وبعد أكثر من ستة عقود من تصعيد التشريد، وعدم الأمان، والحصار، والهجوم العسكري فإن استثناء الفلسطينيين يرسم إشارة استفهام على معايير انتقاءحقل دراسات الصدمة. خلال السنين التي تطور فيها وانتشر، غزت إسرائيل لبنان في 1982 مما نتج عنه مجزرة صبرا وشاتيلا؛ وأعادت غزو المنطقة A في الضفة الغربية عام 2002؛ هاجمت لبنان مرة أخرى عام 2006؛ هاجمت غزة (2008 – 2009)؛ ومرة أخرى غزة في أواخر عام 2012، مما نتج عنه آلاف الضحايا المدنيين ودمار هائل. إن قمع الانتفاضتين الأولى والثانية، والاغتيالات عن طريق الطائرات من دون طيار، وانتهاكات حقوق الإنسان، و‘الانتقال الصامت’، والهجمات من قبل مستوطني الضفة الغربية تستحق تسمية ‘عنف’ ولا يمكن تسمية تأثيراتها بأي شيء غير ‘معاناة’. ما الذي جعل محررو دراسات الصدمة لا يلاحظون هذه الظواهر أو يقوِّمونها على أنها من الصدمة؟ هل الأمر، كما تقترح الفيلسوفة Judith Butler، أن حياة بعض الناس أكثر مدعاة للأسى من غيرها؟ (2009:24). عندما ينظر الباحثون في الصدمة والمعاناة إلى العالم فهل هناك أداة ترشيح موجودة مسبقاً تعدّل من فهمهم لها؟
السبب الثاني الذي يدعو للقلق هو أنه حذف النكبة ومعاناة الفلسطينيين يشير إلى خلل أعمق في ‘حقل الصدمة’، إنه استبعاد الاستعمار، في أشكاله ما قبل الحديثة وكذلك الحديثة، كمسبب رئيسي للمعاناة في العالم المعاصر. ينطوي استبعاد النكبة ضمن إطار العمل الأشمل لعدم الاعتراف بالعنف الاستعماري في الماضي والحاضر. إن مقاربة إنسانية مستندة على المساواة لن تعترف بهذه الأحداث على أنها صدمة فحسب بل إنها ستستجوب تاريخها كذلك. يعود أثر المعاناة الفلسطينية الحالية بشكل راسخ إلى نكبة 1948: من دون فهم هذا، فلن توجد أرضية لتدخّل فعّال، ولا أمل لتسوية دائمة.
ثالثاً، هناك ارتباط بين الدراسات الأكاديمية وسياسات عالم الواقع، وخصوصاً عندما تصدر هذه السياسات من مراكز قوى إيديولوجية. إن غياب النكبة عن ‘حقل الصدمة؛ يعكس وكذلك يعمق تهميش المطالب الفلسطينية في العدالة والاعتراف بهم في عالم السياسة. تأتي رعاية مذهب الصدمة من "المجالس البحثية العلمية الاجتماعية Social Science Research Councils" في الولايات المتحدة والمملكة البريطانية، وكذلك من الجامعات الكبرى مثل هارفارد وجون هوبكنز وبركلي وكامبريدج وأكسفورد. ومع أن هذه الجامعات تدعي الاستقلالية التامة عن سياسة الدولة فإن دراسات الصدمة تشير إلى تفكير متوازٍ فيما يخص قضايا السياسة الخارجية. قد نسأل هل كانت ستلقى الأبحاث نفس الرعاية لو أنها كانت حول معاناة اللاجئين من الحرب في أفغانستان والعراق الذين طلبوا اللجوء في بريطانيا؟ أو حول معاناة التشيغوس عندما تم إخلاؤهم من جزيرة سان دييغو من قبل بريطانيا للسماح بتأجيرها لتصبح قاعدة أمريكية؟ أو حول معاناة أمهات أطفال العراق وغزة الذين ولدوا بتشوهات خلقية سبّبها اليورانيوم المنضب؟ أو حول معاناة عائلات ‘الإرهابيين’ المشتبه بهم والذين ينتظرون تسليمهم للولايات المتحدة؟ لم لا نجد دراسات الصدمة عن السكان الأصليين في أمريكا؟
ج) مجتمعات أخلاقية
يقترح الدارس الباحث David Morris إطار عمل نظري يتم من خلاله تفسير الاهتمام ببعض أشكال المعاناة وعدم الاكتراث ببعضها الآخر. يشير إلى أن التقاليد الثقافية تشكل مذاهب يتم الاعتراف من خلالها بالمعاناة: "ما يتوجب على الأدب أن يخبرنا إياه عن المعاناة...يعتمد على القرارات الأساسية حول ما يمكن اعتباره أدباً ومن تعتبر معاناته مهمة" (1997:25)؛ وَ "أولئك الذين نبقى عمياناً لمعاناتهم هم الذين ليسوا جزءاً من ‘مجتمعنا الأخلاقي’" (1997:39). يربطنا هذا السؤال الحرج – من تعتبر معاناته مهمة – بالمفهوم التفسيري الرئيسي لـِ Morris، ‘المجتمع الأخلاقي’. إن التاريخ والثقافة يشكلان قيوداً بما أن الكتّاب يعملون "ضمن مشهد اجتماعي محدد" لا تَعبر قصص المعاناة الحدود الثقافية بسهولة؛ ليست المعاناة "معطيات أولية...نستطيع تحديدها أو قياسها بل هي حالة اجتماعية نعززها أو نكبحها". "لا نعترف بتدمير كائنات خارج مجتمعنا الأخلاقي على أنه معاناة": إن مقتل سائق شاحنة عراقي بهجمة جوية أمريكية "سيعرض على شاشات التلفاز الأمريكية على أنه دليل على تفوق التقنية في الولايات المتحدة". تضع Judith Butler قصر النظر هذا ضمن إطار عنصري: "إن أشكال العنصرية المؤسَسة والفاعلة على مستوى الإدراك تنزع لإنتاج نسخ أيقونية لسكان توثر مأساتهم بشكل بارز، وسكان آخرين لا تشكل خسائرهم أي خسارة بالنسبة لنا، ولا تؤدي مأساتهم إلى أي تأثير" (Butler 2009:24)
تقدم لنا نظرية Morris للـ ‘المجتمعات الأخلاقية’ مدخلاً نستطيع من خلاله استكشاف حدود تواصل المعاناة بين الشعوب التي يغلب عليها الإسلام والشعوب التي تغلب عليها المسيحية. يقتفي الباحث Norman Daniels أثر بداية العداء الأوروبي للإسلام من النصوص المسيحية القديمة للمسيحية بعد وقت قصير من ولادة المسيحية، ويستشهد بالشاعر دانتي حين وضع النبي محمد في الدائرة الثامنة من جهنم، مع المغويين والمنشقين (1960:192). عززت معاداة الإسلام الأوروبية الحملات الصليبية، والأعمال التبشيرية، والتغلغل الاستعماري. إن الاستبدال الحديث لمصطلح ‘الديانات التوحيدية الثلاث’ وهو الأقدم استخداماً بمصطلح‘المسيحية اليهودية’ يدل على استبعاد الإسلام وهو ما ترافق أيضاً مع نهوض الرُهاب من الإسلام في الغرب. إن كان انتقال ‘حقل الصدمة’ إلى العالم غير الغربي يُظهر نزعة ضعيفة في بحث المعاناة في المجتمعات العربية والمسلمة فقد نعزو ذلك لنقاش إيديولوجي يماثل الاستشراق. إن تركيز دراسات الصدمة على المحرقة اليهودية لا يمكن معاينته على أنه سبب تجاهل هذا الحقل للنكبة، بل إنه أحد عوارض التمحور الأوروبي.
قبل أن أنهي، أريد أن أضع هاتين الظاهرتين، المحرقة اليهودية والنكبة، جنباً إلى جنب، ليس من أجل مقارنتهما، لأن كل كارثة فريدة بحد ذاتها، ولكن من أجل تذكر ارتباطهما التاريخي. يقول المؤرخ الإسرائيلي Ilan Pappe بأن الباحثين "فضلوا التعامل مع كلا الموضوعين" - المحرقة اليهودية والنكبة - "بشكل منفصل - وكما لو أنه لا يوجد ارتباط بينهما. ولكن الارتباط موجود..." الارتباط، كما يجادل Pappe، يكمن في نفوذ المحرقة اليهودية على قرار التقسيم في شباط 1947 والذي قسم فلسطين بين دولة يهودية تحتل أكثر من نصف الأراضي، ودولة عربية تحتل أقل من النصف. بما أن الفلسطينيين العرب كانوا يشكلون ثلثي تعداد السكان في ذلك الوقت، وكانوا يملكون 90% من الأراضي، فقد رفضت القيادة الفلسطينية والدول العربية التقسيم على أنه ظالم ولا يمكن قبوله. صادقت معظم الدول الغربية بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي على التقسيم. امتنعت بريطانيا عن التصويت. الدول العربية والمسلمة بالإضافة إلى كوبا واليونان والهند هي الوحيدة التي صوتت ضده.
لماذا قدمت الأمم المتحدة اقتراحاً ظالماً وغير قابل للتطبيق؟ يقول Pappe:
إن الحجة بأن دولة يهودية هي تعويض عن المحرقة اليهودية كانت قوية لدرجة أنه لم يستمع أحد للرفض الصريح لحل الأمم المتحدة هذا من قبل أغلبية السكان في فلسطين. ما نتج هو رغبة أوروبية بالتكفير عمّا اقترفته. كان يجب وضع الحقوق الطبيعية للفلسطينيين جانباً وتقزيمها ونسيانها برمتها في سبيل الغفران الذي كانت تسعى إليه أوروبا من الدولة اليهودية الوليدة (Pappe:2008)
إن استمرار الفلسطينيين في تفنيد حق أوروبا بغسل ذنوبها في اضطهاد اليهود على حساب الفلسطينيين هو من دون شك أحد أسباب استبعاد معاناتهم من الكتابات الأكاديمية، لأنه اعتراف نزيه بحقوقهم في السياسة الدولية. وبحلول الوقت الراهن فقد نُشرت تجارب معاناتهم خارج سياق ‘الصدمة’، بينما زاد وعي الجمهور العالمي لماهية الحياة في غزة تحت الحرب والحصار المستمرين، وفي الضفة الغربية تحت الاحتلال المستمر، وذلك بفضل التغطية التلفزيونية المصورة. عوضاً عن معرفة المزيد عن المعاناة الفلسطينية، يحتاج العالم إلى معرفة المزيد عن اشتراكه في المصادقة على استثنائية إسرائيل، ويحتاج أيضاً إلى التعبئة من أجل مفاوضات تحقق العدل وإعادة المِلك إلى مالكه الشرعي.
[ترجم المادة إلى العربية لجدلية مازن حكيم]